القوى الفاعلة : تستثير القارئ ظاهرة المقابلة بين شخصيات الرواية ، انسجاما مع تقابل اليتيمات المهيمنة على دلالاتها العامة ، حتى ليبدو كأن نجيب محفوظ يمرر من خلال شخوصه المنتقاة بعناية ، جملة من الصور الذهنية المتصلة بحمولة وعيه عن الواقع الكائن وما يمكن أن يكون عليه، باعتبار تلك الشخوص نماذج اجتماعية تعبر عن مواقف وقضايا المجتمع في صيرورته. فمن جهة ، نجد سعيد مهران ونور والعتر و الشيخ لجنيدي و طرازان ، ممثلين بقوة لحالات البساطة والبراءة والصدق والنظرة الإنسانية بمشاعر التعاطف والتالف على خلفية علاقة تنطلق من قيم الوفاء والحب والصداقة والتناصح ، و من جهة أخرى ، نجد نبوية و عليش ورءوف علوان، مجسدين بنفس القوة لحالات التراجع والخيانة والخيانة والمكر والنظرة الحسابية للمصالح الذاتية في بعدها المادي الضيق .وقد ينسحب هذا التقابل بين القوى الفاعلة على الواقع ، باعتبار ما كان يعيشه من تحولات ، انتهت إلى وضعية كارثة على مستوى القيم ، وتراجيدية على مستوى السلوك الفردي ، في غياب ضوابط التحكم الموضوعية ، والتي تخفي وراءها فقدان التوازن بين رغبات الناس وإكراهات الواقع .بوقفة أولية مع الشخوص الروائية في ''اللص والكلاب''، يمكن ملاحظة ظاهرتين بارزتين ، أولاهما متصلة بالظهور والاختفاء ، وثانيهما مرتبطة بما يمكن أن تحيل عليه دلالة أسمائها ، فبينما يظهر '' سعيد مهران'' منذ البداية ، ليستمر في الحضور المكثف كشخصية محورية ، يطفو وجود ''نور'' و''رءوف علوان''برمزيتهما في مسار الرواية ، لمسايرة جل التحولات التي يعيشها '' سعيد مهران'' حتى آخر لحظة من حياته ، وفي المقابل ، نجد اختفاء سريعا لكثير من الشخصيات رغم تأثيرها القوي في تنامي الأحداث ، لعل أبرزها شخصيتا '' نبوية'' و''عليش'' ومعهما ''سناء'' ابنة ''مهران''، بعد تغيير سكناهم خوفا من انتقام الجريح في وجدانه العاطفي، ويمكن أن يلحق بهم العتر رفيق الزنزانة أو الصيدلاني، بينما ظلت الجارة ''طاهرة'' و المعلم ''طرازان'' و'' الشيخ الجنيدي'' ضمن الذين تواصل وجودهم متأرجحين بين الظهور والاختفاء ، وهي ظاهرة تثري الأسئلة حول أبعاد الظهور والاختفاء لتلك الشخصيات ، فيما يمكن أن تكون له صلة باختيار مسبق للمؤلف، كالإيحاء والدلالة على ما يمكن للقارئ أن يشارك به في الاحتفال بالمشهد الروائي كرسائل مشفرة . أما الظاهرة الثانية ، والمتعلقة بأسماء تلك الشخصيات ، على افتراض وجود نية مسبقة في اختيارها ، فيمكن رصدها من خلال نماذج موحية بدلالات متصلة بالرواية، حتى لتكاد أن تبدو أقرب إلى التمثيل بالمطابقة أو بالمخالفة ، فسعيد مهران لم يكن بشقه الأول سعيداً ، ولا كان بشقه الثاني موفقا فيما سعى إلى التمهر فيه ، بل ظل تعيسا تتراكم عليه الأزمات ، بقدر ما ظل فاشلا بعجزه عن بلوغ أبسط رغباته في الانتقام ، حين أخذ رصاصه يصيب الأبرياء دون الظلمة ممن انتهى إلى وصفهم بالكلاب . ولم يكن لرءوف علوان شيء يمكن أن يتصل باسمه المركب ، فلا هو مثل الرأفة المعبر عنها في اسمه بصيغة المبالغة ، ولا هو بلغ السمو المطلوب في علوان المزيد بألف ونون لمفرد العلو ، بل مثل في الرواية كل ما يناقض القيم التي يحيل عليها اسمه ، من وضاعة وانتهازية و وصولية .أما الأسماء المفردة للأعلام في الرواية ، فبعضها متصل بمعانيها العامة ، كطرزان والجنيدي وطاهرة ، إذا تحيل في الرواية على الفتوة والصوفية والبراءة على الترتيب ، بينما تقبل الأسماء الأخرى إمكانية الربط بينها وبين دلالاتها ، فنور التي صاحبت سعيد مهران على امتداد تطور الأحداث ، ظلت تجسد النقطة المضيئة في حياته إلى أن أغمض عينيه بين يديها، بالرغم من وضعيتها القاسية اجتماعيا كفتاة يحضنها الليل كي تجد ما تعيل به نفسها في النهار ، ونبوية الزوجة الخائنة ، لم تحمل من معنى النبوة في بعدها الديني أي شيء ، ربما كانت أقرب إلى النبو بمعنى الابتعاد والانفصال .. لا شك أن تلك الشخصيات كمكون حيوي من مكونات النص السردي ، لا يمكن أن تحيل على إيحاء أو معنى خارج سياقها الروائي ، لأن وجودها ضمن علاقات متشابكة يطبعها الاتصال حينا والانفصال حينا آخر ، وحده الكفيل بمنح تعد القراءات التأويلية لرمزيتها ، في ضوء تنامي الحركة الداخلية للنص ، والتي ظلت محكومة بالتجاذبات الثنائية على التناقض أو التكامل ، بين مظاهر سلوكيات تلك القوى الفاعلة . الزمان والمكان : يبدو أن انشغال نجيب محفوظ بالهاجس الوجودي في روايته ''اللص والكلاب'' ، قد أجل اهتمامه بالتفاصيل الزمكانية ، رغم إحالتها الظاهرة على الواقع المصري في حقبة معينة ، بحكم انطلاقها في الأصل من حادثة واقعية كما يتحدث عنها المؤرخون لعالم الجريمة في مصر، وقد هيمن الليل بعالمه السفلي على جل أطوار التطور الحدثي فيها ، فاتخذ الظلام بعدا إيحائيا وثيق الصلة بالاكتئاب الداخلي ومعاناة الاختناق اللتين عاشاهما سعيد مهران ، بينما تنوعت الأمكنة بين البيت والزنزانة والجامع والمقهى ، كفضاءات إيواء أو محطات للعبور من حدث لآخر ، دون الشعور بأبعاد حمولتها أو تأثيرها البين في مسار تلك التحولات ، رغم ما يؤشر عليه بعضها كتواضع بيت نور أو فخامة فيلا رءوف علوان أو نقاء جامع الجنيدي ، ولعل ذلك راجع كما قيل ، آلة اهتمام الكاتب بالقضايا واليتيمات التي اشتغل عليها ارتباطا بحركة الشخصيات في وجودها الاجتماعي والنفسي .الحوار : بالرغم من الطابع الدرامي للحدثية في الرواية ، والذي تحكم في الحوارات الثنائية بين مختلف الشخصيات سلبا أو إيجابا ، فقد كان للحوار الداخلي حضور قوي على مستوى سعيد مهران خاصة ، إذ كان وسيلة استرجاعية لاستعادة الماضي الذي عاشه سعيد مهران قبل دخوله إلى السجن، و بالتالي قدم معرفة مطبوعة بالصدق مع الذات ، حول ما ظل يعتبره خلفية لمأساته الاجتماعية والنفسية ، وتبريرا موضوعيا لما شغله من أمر التفكير في الثأر والانتقام لوجوده الذي هشمه الغدر والخيانة ، فأودى به إلى التمزق والعجز عن التواصل مع ذلك العالم الموبوء . الرؤية السردية : تهيمن على رواية نجيب محفوظ ''اللص والكلاب'' ، تلك الرؤية السردية من الخارج / الخلف ، بدلالة مواصلة الحكي اعتمادا على ضمير الغائب ، فيما لم يكن حوارا يتجاذبه المتكلم والمخاطب ، وكأن الكاتب تقصد نطق الشخصيات وحركة الأحداث وفق منطقها الداخلي ، باعتبارها استجابات طبيعية لمؤثرات موضوعية ، رغم ما يمكن أن يظهره السرد من علم مسبق ومعرفة جاهزة بمصائر التحولات المتعاقبة بعلاقات سببية واضحة ، كأننا بالكاتب يمرر عبر الإيهام بالواقع رؤيته للعالم ، وما يعتمل بفكره و وجدانه من مواقف نقدية وانتقاديه لذلك الواقع ، بما يعانيه من اختلالات ، لا تؤشر على أفق مشرق في ظل التفاوت الطبقي أو التناقضات والمفارقات في القيم التي باتت تقوم عليها العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع الواحد . الأسلوب : وإذا تجاوزنا الأساليب السردية المعتمدة في اللص والكلاب بين السرد والوصف والحوار ، إلى التعبيرات اللغوية التي وظفها نجيب محفوظ ، يمكن أن يلاحظ القارئ اهتمامه بتلك اللغة التصويرية المتراوحة بين هيمنة الفصحى على السرد والوصف، و حضور العامية المصرية في الحوارات الثنائية خاصة ، ذلك أن الكاتب في وضعية السارد ، يسعى إلى تمثل المواقف بصيغتها ولغتها التشخيصية الواقعية ، من خلال الحرص على توظيف المعجم المتداول في الخطاب اليومي ، واستعمال الجمل القصيرة انسجاما مع تقتضيه المقامات ، دونما حاجة للإغراق في التوسع التعبيري من أجل جماليات أسلوبية .
-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق