السبت، 30 مايو 2009


ماذا تبقى من جبران خليل جبران؟ أو بصيغة اخرى، هل ما زال جبران مقروءا بعد سبعين سنة من رحيله؟ وبالتالي ما هو تأثيره في الحركة الشعرية العربية الآن؟
قد لا يكون من المبالغة القول ان حركة الحداثة في الشعر العربي ما كانت لتبدأ لولا جبران ومجايلوه ممن اطلق عليهم شعراء المهجر. واذا كان تأثير مدرستي «الديوان» و«ابوللو» المصريتين تأثيرا مباشرا بهذا القدر او ذاك، على بدر شاكر السياب واقرانه تشير اليه كل الدراسات النقدية حول الشعر الحديث، فان تأثير شعراء المهجر هو تأثير غير مباشر، ولكنه تأثير عميق، ان لم يكن اعمق من تكوين المدرستين المصريتين، كان يحفر بهدوء في بنية القصيدة العربية. لم يغرق شعراء المهجر في التنظير، ولم يدعوا الى التمرد على الانماط السابقة، بل ادخلوا الى هذه الانماط نفسها روحا ونفسا جديدين استجابت لهما اشكال جديدة بشكل يبدو اقرب الى العفوية. وملامح هذا التأثير غير المرئي الهادئ الجريان كأي شيء عميق لم تدرس بعد للاسف بشكل واف. ولعل ابرز هذه الملامح الهبوط بالشعر من السماء الى الارض، من المجرد الى المحسوس، ومن المطلق الى الحسي، اي العودة الى الحياة ذاتها بجمالها وقبحها، وواقعيتها النثرية والارتفاع بها الى مستوى الحلم. وعلى عكس البلاغة القديمة ـ اذا استثنيتا الشعر الجاهلي ـ التي تنطلق من العام الى الخاص، انطلق شعراء المهجر، وابرزهم جبران، من الخاص الى العام، ليورثوا ذلك الى الشعراء اللاحقين الذين حاولوا قصيدة النثر مثل لويس عوض وأحمد باكثير، او رواد شعراء التفعيلة كبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي.
وبهذا المعنى، كان شعراء المهجر بمثابة الجسر الرابط بين الثقافتين الغربية والعربية. فقد وصلتنا رومانسية شيللي وكيتس، كمدرسة فكرية وليست شعرية فقط محصورة بطريقة التعبير الشعري ونوعيتها، عبر كتاباتهم النثرية وقصائدهم، وعبرها عاد الاعتبار الى الذات في توحدها مع الموضوع والاحاسيس المتناغمة مع العقل، كالحسي الذي لا ينفي الروحي.
وبكلمة واحدة، انحلت الثنائيات في نصوص شعراء المهجر، وبالتالي في شعرنا الحديث، وهو انجاز فتح آفاقا لانهائىة امام حركة هذا الشعر ما تزال محتفظة بزخمها لحد الآن، لانها تتوافق مع حركة الحياة نفسها والطبيعة نفسها التي تكره الثنائيات القاتلة بقدر كرهها للفراغ.
وكان لا بد لهذه الرؤية الجديدة ان تولد اشكالها التي تعبر عنها، ومفرداتها التي تجسدها، متخلصة عبر محاكمة نقدية صارمة من الازدواج الذي اثقل القصيدة العربية طويلا، وكاد يقتلها.
لقد عادت المفردات اليومية الغنية المشحونة بالايحاء، واقترب النص بذلك من القارئ الذي وجد فيه شيئا منه، من دون ان يتنازل احدهما للآخر، بل يمكن القول انهما التقيا في منتصف الطريق. وفي رأينا، ان هذه الخاصية قد ساعدت على انتشار نتاجات شعراء المهجر، وبالتالي تأثيرهم، وسط قطاعات واسعة من القراء اكثر مما نلاحظ في حالة شعراء مدرستي «ابوللو» و«الديوان» اللتين انحصر تأثيرهما في اوساط المثقفين بل حتى في دوائر ضيقة ضمن هذه الاوساط.
فقد غلب على كتاباتهم عموما التجرد اكثر من الحس، والتنظير اكثر من الحياة، والخارج اكثر من الداخل، اي انهم، اعادوا انتاج الاسلوبية القديمة باشكال جديدة، فوقعوا في الازدواجية التي ثاروا عليها. ماذا بقي من هاتين المدرستين، اي «ابوللو» و«الديوان»؟ سؤال يطرح نفسه بالضرورة ونحن نستذكر جبران، ومعه «مدرسة شعراء المهجر» فهي المدارس، او الاتجاهات الادبية الابرز في تاريخنا الثقافي في القرن العشرين، بالرغم من تفاوت تأثيراتها وطروحاتها وفنية نتاجها، وهي التي اسست معا بنسب مختلفة لما نسميه الآن: حركة الشعر العربي الحديث.

ليست هناك تعليقات: